موضوع: عن الهوية و الخصوصية: التاريخ ليس طبيعة السبت 17 يوليو 2010, 6:06 pm
بداية أشكر الأستاذ الدكتور إبراهيم صحراوي على تعقيباته التي جعلت من حوارنا ونقاشنا تحليقا عاليا في فضاءات التنقيب عن مضمرات كل خطاب منتج باسم المعرفة. وأقر بالمستوى المعرفي والأخلاقي العالي للأستاذ الكريم الذي جعلني - شخصيا - أتلهف لردوده بغية الإفادة منها أو مناقشتها إن رأيت أن لي رأيا أو موقفا مخالفا لما يذهب إليه الأستاذ. وإذ تشرفت وأنا أقرأ هذا التعقيب عن ردي الأخير، فإنني أود - هنا أيضا - أن أوضح بعض الأمور على سبيل التموقع المعرفي الذي أراه الأكثر تخلصا من علائق الإيديولوجية الملازمة للصراع الراهن بين الشرق والغرب، وأراه أيضاالأكثر جذرية في تناول مسألة الهوية الحضارية من منظور لا يركن إلى الجاهز الإيديولوجي الغارق في حمى الصراع الحالي، ولا يطمئن - إبستيمولوجيا - إلى النظرة الجوهرانية للأشياء التي كانت مأخذنا الرئيس على الأستاذ في تدخلنا السابق.
إن الأستاذ صحراوي يقر صراحة أن الشرق والغرب يشكلان ثنائية قديمة قدم الحضارة البشرية ويخلص - بعد سرد تاريخي لبعض مظاهر الصراع بين الشرق والغرب - إلى القول إنه يتبنى هذه الثنائية بل ويؤمن بها ويتحمل تبعات النظرة التي تكرسها. هنا نرانا ملزمين بتوضيح بعض الأمور. إن الشرق والغرب كما نفهمهما ليسا أقنومين أزليين، وليسا جوهرين يقبعان خارج صيرورات العالم وصراعاته وإنما هما نتاج تاريخي عرضي تماما. هذا يعني، بالتالي، أن الشرق والغرب توصيفان شكلا حدثا تاريخيا يجب فهم ميلاده في التاريخ بفهم المسار المعقد للصراع الذي لم يكن في البداية بين “الشرق” و”الغرب” كما يفهمان اليوم، وإنما كان بين كتل حضارية كانت تتنافس على حوض المتوسط ثم تطور الأمر في العصور الوسطى إلى أن يصبح الصراع بين الإسلام والمسيحية صراعا على الهيمنة باسم رأس المال الرمزي المشترك لأديان الخلاص من منطلق ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتمثيلها. كان الصراع إيديولوجيا وسياسيا واضحا ولم يكن يتم باسم الشرق والغرب. كان الصراع القروسطي باسم الدين الحق وكان يضمر رغبة في السيطرة على العالم المتوسطي الذي كان قلب العالم وملتقى خطوطه التجارية. ونعتقد - انطلاقا من ذلك - أن التمييز بين الشرق والغرب لم يأخذ ملامحه الأولى إلا بعد حركة النهضة الأوروبية فالنزعة الإنسانية فالأنوار، حيث بدأت أوروبا تعي نفسها بوصفها عالما حضاريا متميزا أصبح يمثل مركزا جديدا للعالم يستطيع أن يفيض بنوره على باقي أرجاء المعمورة بالاستعمار الذي ظل ينعت في الأدبيات الاستعمارية بأنه يمثل رغبة الرجل الأبيض في ” تحضير ” الأمم ” المتوحشة “. هنا تعرف الأوروبيون - وهم يكتشفون الأرض - على العالم الإسلامي الذي تصلبت شرايين حضارته ودخلت مرحلة همود طويلة. هذا ما جعلهم ينتجون تلك الصورة الرومانطيقية عن شرق إسلامي سحري وحسي ولاعقلاني أصبح محجا للأدباء والشعراء والفنانين كما يعرف الأستاذ. وهذا أيضا ما جعل بعض المفكرين ينتج نظريات ” علمية ” عن الطبيعة الشرقية المزعومة وعن الروح الشرقية التي تأنف من العقل والنظام والتركيب وتستكين إلى الخرافة والغيب والنزعة القدرية. هذا ما قصدناه عندما تحدثنا عن الرؤية الجوهرانية. إن إرنست رينان مثلا E.Renan - وهو من أساطين هذه النظرة - لم يكلف نفسه عناء البحث التاريخي الموضوعي عن انتكاسة الشرق الإسلامي ودخوله الزمن الثقافي الراكد، وإنما اكتفى بإسباغ صفة “الطبيعة” على ما هو ذو منشأ تاريخي عرضي ولا يتعلق بالإنسان الشرقي كما تم إنتاجه في المخيال الكولونيالي. أصبح “الشرق” كما تم إنتاجه في الأدبيات الكولونيالية رديفا للتخلف والبعد عن الحضارة والعقل والعلم. وهنا أجدني أطرح سؤالا: كيف لنا أن نقبل بخصوصية تم توهم ملامحها من طرف المستعمر نفسه ونحن ندعي محاربته؟ اعتقادنا الجازم، هنا، أن الخصوصيات الحضارية ليست جواهر تعلو على التاريخ وإنما هي أمور عرضية طارئة ولا تشكل هوية ثابتة. وإنما المشكل كل المشكل في القوى الإيديولوجية التي تنشط باسم الهوية من أجل تحقيق أغراضها في الهيمنة الرمزية والمادية زمن الصراعات الكبرى كما نشهد اليوم. فهل على المثقف النقدي أن ينجرف وراء التلاعب السافر الذي يتم باسم الحديث عن الهوية والخصوصية الحضارية؟
أحسبني، هنا، لا أقول جديدا وإنما أنبه إلى أهمية بعض الفتوح المعرفية التي تناولت الصراع بين الشرق والغرب من زاوية نقدية كشفت عن علاقة المعرفة الغربية برغبة الهيمنة التي تضمرها. لا معرفة خالصة عن الآخر. هذا ما أراد إدوارد سعيد، مثلا، في مؤلفه الضخم ” الاستشراق ” أن ينبه إليه وهو يتتبع مسار إبداع ” الشرق ” من طرف الغرب بوصفه تشكيلا خطابيا يبرر الهيمنة ولا يمت بصلة إلى واقع الأمور. الشرق إبداع غربي. إنه نتاج خطابي يفصح عن إرادة القوة في الغرب وعن مركزيته الصاعدة أكثر مما ينتج معرفة عن الآخر الذي يدعي اكتشافه. إن المتكلم هو الذي يشكل ما يتحدث عنه ويبدعه انطلاقا من مركزه في علاقات القوة. هكذا تكلمت الأركيولوجيا الفوكوية ( نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر فوكو M.Foucault) التي اعتمدها إدوارد سعيد وهو يعيد النظر في الاستشراق بوصفه خطابا غربيا عن “الشرق”. وهذا بالضبط ما حدث مع الغرب الحديث الذي كان المتكلم الوحيد عن الشرق من زاوية التعرف على ذاته وعلى حدود خصوصيته الحضارية بالإشارة إلى وجهه الآخر. من هنا نعتقد أن الصراع الحالي بين الشرق والغرب يجيش فعلا المخيال والذكريات المتعلقة بالحروب، ويجيش أيضا النزوع المركزي الغربي الذي ظل يعتقد بتفوق الحضارة الغربية الحديثة، أي حضارة العقلنة والأنسنة والعلمنة. إن للصراع - بكل تأكيد - جذورا تتجاوز قدراتنا على الانفتاح ومد الجسور نحو الآخر بروح إنسانية تضامنية بعيدا عن المسبقات الجاهزة وعن التمترس وراء حصون الهويات التي يعاد إنتاجها بوصفها ملاذا في عالم غير آمن. وما الحديث، اليوم، عن حرب الهويات وصدام الحضارات والخوف على الهويات إلا حلقة ضمن الصراع على الهيمنة بوسائل أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة وفشل الحداثة الكلاسيكية بكل إيديولوجياتها في إنتاج تحديث متوازن يتحدث باسم الإنسانية جمعاء لا باسم المركز الغربي المهيمن فقط. إن الهوية، بالتالي، شرقية كانت أم غربية ليست إلا حصنا أخيرا للدفاع عن الذات كلما شعرت هذه الذات بأنها مهددة. وهذا هو - تحديدا - الأمر الذي يواجه مطامح النزعة الإنسانية الكونية في تجاوز مآزق الصراع الذي يريد الإبقاء على منطق ” الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”. على العقل العولمي أن يتجاوز بصورة نقدية جذرية كل نظرة جوهرانية تقفز على التاريخ وتشطر الوعي الإنساني إلى روح شرقية وأخرى غربية بغية إطالة أمد الصراع الذي لن يخدم إلا إرادة القوة التي تفصح عنها الأمبريالية والنزعة الأمبراطورية المتآكلة تاريخيا.
لقد قرأت في كتاب رولان بارت R.Barthes “أساطيريات” كلمة ذات دلالة يقول فيها: ” إن الأسطورة هي تحويل التاريخ إلى طبيعة “. وهذا، على ماأعتقد، هو مدار نقاشي ومدار اختلافي مع الأستاذ صحراوي ونحن نتحدث عن الشرق والغرب. إنني أعتقد أن منطق الصراع من طبيعة إيديولوجية وعلى المثقف النقدي ألا يتورط في إعادة إنتاج الصراع الذي يدعو إلى سحق الإنسان دفاعا عن هويات هي - في التحليل الأخير - نتاج تطور تاريخي وليست أقنوما أزليا مقدسا. وأعتقد كذلك أن التمترس وراء السائد من الأفكار عن الشرق والغرب لا يخدم الحديث عن الإنسانية بقدر ما يخدم الأوضاع السائدة التي تريد تأبيد وهم الصراع الأبدي بين معسكري “الخير” و”الشر”. هنا أقول للأستاذ صحراوي أنا لست مانويا( نسبة إلى الديانة المانوية القديمة التي تعتقد بوجود إلهي النور والظلمة) ولا أستطيع الدفاع عن الثنائية التي تتبناها والتي أرى، شخصيا، أنها نظرة متهافتة من حيث هي موقف غير تاريخي وغير نقدي لا يكلف نفسه عناء الخروج من الأطر الإيديولوجية الموروثة في النظر إلى مسألة الهوية كما يعاد إنتاجها لحظة الأزمات والصراع على احتكار معنى الكينونة التاريخية.
أود أيضا أن أقف موقفا نقديا من كلام الدكتور صحراوي عن الغرب وكيف أنه يتعامل معه بصورة ” انتقائية وبراغماتية ” كما يعبر. فربما كان هذا الموقف نقطة انطلاق كسولة في التعامل مع الحضارة الحديثة التي تطرح إشكالات عديدة على العقل العربي. إن التعامل الانتقائي والبراغماتي النفعي مع الغرب يعني - على ما نرى - الإفادة من منجزات الغرب دون طرح أسئلة الحاضر على الذات التاريخية الموروثة. إنه موقف يجسد قدرة الذات الحضارية العربية - الإسلامية على استعارة منجزات الحداثة لا على ابتكارها أو الإسهام فيها. وربما كان هذا، أيضا، موقف الأصولية الحديثة التي تفننت في ” تكفير ” العصر ولم تتورع في الإفادة من منجزه التقني الاستهلاكي إلى الدرجة التي أصبحت الحياة العربية معها “بداوة تمتطي تكنولوجيا” على ما يرى الراحل محمود درويش. هذا الموقف يجسد بصورة جلية الثنائية التي تمزق الوعي العربي والتي يتبناها الأستاذ صحراوي دون روح نقدية. أعتقد أن الحداثة الحقيقية عقل لا آلة وروح لا تقنية. إنها الدخول في العصر والإسهام في نقاشاته ومنجزاته على مستوى كوني يتيح إعادة النظر في معنى الأشياء ويفضح كل ما من شأنه أن يجعل الإنسان شيئا في آلة الاستلاب العملاقة. إن دخول العصر لا يعني المحافظة على الأصالة كما يعاد إنتاجها بوصفها نقطة ثابتة في الماضي، وإنما تعني القدرة الذاتية على مراجعة الذات وعلاقتها بالعالم وبالماضي جميعا من أجل التأسيس لعلاقة هارمونية جديدة مع اللحظة يتم بها تجاوز الاستلاب والاغتراب عن اللحظة. إن العرب والمسلمين لم ينتجوا الحداثة، وربما لم يحسنوا استعارتها أيضا من الآخر الغربي، بل كانت حياتهم حبيسة الانتقائية التي جعلتنا ننتج تحديثا متوحشا وغير متوازن لم يغير العقل وإنما جعل منا سوقا استهلاكية هائلة للمركز الغربي المصنع. هذا ما جعل الكثير من المثقفين العرب المعاصرين يعتبرون أن دخولنا العصر الحديث لم يتم في سياق إبداعي بل في سياق استهلاكي وشتان بين الأمرين. من هنا أعتبر الانتقائية والبراغماتية النفعية موقفا غير نقدي إزاء الذات وإزاء الآخر معا. إنها موقف يمثل حيلة الذات في محاولة تجاوز اغترابها عن العصر، بالدخول فيه على هيئة مومياء لا روح فيها ولكنها ترتدي جبة العصر التي لن تمنحها الحياة بالطبع. ومن جهة أخرى يمثل هذا الموقف روحا سلبية إزاء الغرب المهيمن باسم حداثة تكشف، يوما بعد يوم، عن أزماتها وعن مركزيتها وتاريخيتها وحدودها. وبالتالي فالمشكلة ليست في “مواكبة العصر” كما يحلو للكثير منا أن يعبر وليست في الانتفاع منه كما يحب الأستاذ صحراوي أن يذهب، وإنما في دخول العصر بوصفنا فاعلين فيه ومسهمين في تأسيس شرعية المعنى الذي يخلص وجودنا من الارتهان في معنى القوة. شكرا. --------------------------------------------------------------------------------